الصفحة الأساسية > آباء الكمبيوتر > كلود شانون: لولاه لما عرفنا البت

كلود شانون: لولاه لما عرفنا البت

بقلم جورج قندلفت

كلود شانون شخصية شبه مجهولة في تاريخ الكمبيوتر. وحتى الذين يعرفون اسمه يظنون إنه لا يتعدى كونه منظّراً - أو مخترع شيء غامض اسمه «نظرية المعلومات» (information theory). في الواقع، كان شانون مهتماً بمجموعة كبيرة من المواضيع وكان رائداً مهماً في نظريات الكمبيوتر وتطبيقاته العملية. وفي محاولة لتحسين صورته يمكن لنا أن نصفه بأنه «ابو البت» او «الرجل الذي اخترع لعب الشطرنج في الكمبيوتر».

ومع أنه تخصص في مجال الرياضيات ونال شهادة دوكتوراه فيها من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، إلا أنه قدم مساهمات مهمة في مجال نظريات علم الكمبيوتر وتطبيقاته. بالطبع عندما كان شانون طالباً لم تكن أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية قد وجدت. فكان هناك بضعة أجهزة ميكانيكية تستخدم لحساب المسارات وجداول المد والجزر في البحار ولكن لم يكن هناك أي شيء يشبه الكمبيوترات الرقمية. فمنذ التصميم الأساسي الذي وضعه باباج في القرن التاسع عشر للكمبيوتر الذي يخزن برنامج، تطورت آلات الحساب الميكانيكية ولكنها كانت آلات عشرية تنفذ العمليات الحسابية باستخدام العجلات والمسننات المرقمة من صفر إلى ٩. وتبدو طريقة عملها كأنها نسخة ميكانيكية من أسلوب الحساب عند الإنسان. فهناك عجلة للآحاد وأخرى للعشرات وثالثة للمئات وهكذا دواليك. وكل عجلة تملك عشر حالات. وقد نعتقد اليوم أن الكمبيوتر الثنائي (binary) يشكل الطريقة البدهية لتنفيذ الحسابات ولكن لم يكن الوضع هكذا دائماً. فلجعل الانتقال من الكمبيوتر الميكانيكي إلى الكمبيوتر الإلكتروني ممكناً، كان من الضروري التخلي عن النظام العشري، وهنا دخل شانون في الصورة.

في عام ١٩٣٠، بنى فانيفار بوش أكثر الكمبيوترات الميكانيكية المتواصلة (analogue) تطوراً شهده التاريخ. من الناحية التقنية كان هذا الجهاز محلّلاً تفاضلياً يقوم بحل المعادلات التفاضلية. ولكنه جسّد ابتكارين مهمين: فكان جهاز متعدد الأداء بحيث يمكنك إعادة إعداده لحل أي نوع من المعادلات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يستخدم بعض المكوّنات الإلكترونية - مثل الصمامات والمتابعات. وبالفعل طور بوش، وهو نفسه أحد أهم وجوه تاريخ الكمبيوتر، في ما بعد فكرة جهاز إلكتروني كلياً.

في ذلك الوقت كان كلود إلوود شانون (Claude Elwood Shannon) تلميذ بوش وكان يعمل على المحلل التفاضلي لجني بعض الدولارات. وكانت المتابعات (relays) تستخدم لإعداد الجهاز الذي كان يحتوي دارات مصممة خصيصاً له. ومع ذلك، كان من الواضح أن هذه الدارات تعتمد على مبدأ تنظيمي، فاقترح بوش على شانون أنه، كونه عالم رياضيات، يمكنه محاولة التبحّر في هذا المبدأ. ونجح شانون في فهم مبدأ التنظيم ووصفه في دراسة نشرها تحت اسم يعتبره المتخصصون غاية في الإثارة هو «التحليل الرمزي لدارات المتابعات والمفاتيح»!

المهم بالنسبة لنا أن شانون اكتشف العلاقة بين حالتي المتابع (تشغيل \ إيقاف) وحالتي المنطق البولياني (صح \ خطأ) وذلك بالترميز إلى التشغيل برقم واحد وإلى الإيقاف برقم صفر مما وفر تلقائياً العلاقة مع الحساب الثنائي. وبرهن شانون كيف يمكن استخدام المتابعات لبناء دارات يمكنها تنفيذ عمليات الجمع والطرح والضرب وأي عمليات حسابية أخرى باستخدام النظام الثنائي فقط. وكانت دراسة شانون شاملة لدرجة أوحت أنه حاول كتابة النظرية كاملة دفعة واحدة. ويبدو أن هذه النزعة إلى الشمولية ميزت شخصية شانون كما سنرى لاحقاً.

بالطبع لم يعرض شانون كيفية استخدام المتابعات لبناء جهاز كمبيوتر متعدد المهام يمكن برمجته، فقد اكتفى ببناء بعض مكوناته. إلا أن أهمية عمله تكمن في أنه مهد الطريق لبناء جهاز كمبيوتر إلكتروني يعتمد على النظام الثنائي وذلك بإثبات أن تصميم الدارات الحسابية يصبح أسهل بكثير إذا تخلصنا من النظام العشري. والغريب في الأمر أنه رغم قيام شانون وآخرين بالرهان بما لا يدع مجالاً للشك على أن النظام الثنائي هو الأفضل، فإن معظم الكمبيوترات الإلكترونية الأوائل استخدم النظام العشري. وهذا ليس مثالاً على الجهل بقدر ما هو مثال على عمق تجذّر النظام العشري في عقل المهندسين والعلماء في ذلك الزمان.

مع هذا الاهتمام الظاهر بالمتابعات، كان من الطبيعي أن ينتقل شانون سنة ١٩٤١ من معهد مساشوستس للتكنولوجيا إلى مختبرات الهاتف في شركة «بل». ولا نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا قلنا إنه لا توجد مؤسسة أبحاث أخرى كان لها تأثير أعمق على صناعة الكمبيوتر. فجاءنا من «بل» من ضمن الاختراعات التي ظهرت هناك، الترانسيستر ولغة البرمجة «سي» ونظام يونيكس (أنظر ريتشي وثومبسون: صانعو آلاف المبرمجي).

وفي مختبرات «بل»، تابع شانون تجاربه حول كيفية استخدام المتابعات لبناء أجهزة كمبيوتر. ولكنه لم يكن مهتماً بعلم الحساب فقط، فيمكن ضمه إلى الرواد الأوائل لما أصبح يعرف بالذكاء الاصطناعي. ففي سنة ١٩٥٠، كتب بحثاً اسمه «برمجة كمبيوتر رقمي للعب الشطرنج» اعتُبر بفضله مخترع مجال الالعاب على الكمبيوتر. والمثير في الأمر إنه قرر نشر هذا البحث على جمهور يتعدى الباحثين والأخصائيين، فكتب مقالاً أقرب إلى لغة البشر عنوانه «لاعب الشطرنج الآلي» في عدد من سنة ١٩٥٠ من مجلة سيانتفيك أميركان.

وذهب شانون أبعد من ذلك، فبنى فأرة تتحكم بها المتابعات ويمكنها التجول في متاهة والتعلّم من خلال تخزين خريطة المتاهة على شكل حالات المتابعات. وقد يذكر البعض مسابقة «مايكرو ماوس» في الولايات المتحدة خلال التسعينات من القرن الماضي حيث كان يتحتم على المتبارين بناء فأرة تتحكم بها شرائح إلكترونية وإطلاقها في متاهة وكان الرابح هو صاحب الفأرة التي تجرى أكبر مسافة ممكنة داخل المتاهة. ورغم شهرة هذه المسابقة كان القليلون يعرفون أن شانون هو أول من بنى هذا النوع من الفئران ولكن باستخدام المتابعات.

وصلت الرسالة

إذا اعتقد القارئ أن الابحاث التي ذكرناها سابقاً كافية لملء حياة كاملة لأي انسان، سوف يندهش حين يعرف إننا لم نتطرق بعد لما دفع بشانون إلى الشهرة!

ففي الوقت الذي كان يتسلى فيه باستخدام النظام الثنائي للحساب، لم يكن إدراك ما معنى عبارة «معلومة» قد نضج بعد. وكانت النتيجة أن مهندسين متمرسين اقترحوا حلولاً نعتبرها اليوم سخيفة للغاية. على سبيل المثال، لم يكن مفهوماً تماماً حينها لماذا كانت موجات الراديو تتدفق من الذبذبة التي أرسلت فيها لتحتل نطاق واسع من الذبذبات. وكان الاعتقاد سائداً بأن تطور التكنولوجيا سيخفض النطاق المطلوب الى الصفر تقريباً.

اما اليوم، فنعرف أن الحاجة لنطاق معين لنقل حجم معين من المعلومات هو من قوانين الطبيعة. فلا يمكن مثلاً، إرسال بيانات عبر خط الهاتف بسرعة اكبر من سرعة محددة لأن نطاق خط الهاتف محدود جداً. لذلك نحتاج إلى اسلاك ذات موصلين (coaxial) او مصنوعة من الالياف الضوئية التي تتمتع بنطاق اوسع. في المجال نفسه، نعرف إنه يمكننا ضغط ملف حجمه ميغابايت واحد ليصبح هذا الحجم ٠٫٥ ميغابايت ولكن بعد استخدام أفضل ادوات الضغط، نعرف أننا لا يمكن أن نضغطه أكثر من ذلك. والسبب هو أننا حين نصل إلى محتوى المعلومات الفعلي داخل الملف، لا يمكننا ضغطه أكثر. وكل هذه المعرفة عائدة إلى أعمال شانون ونظرية المعلومات التي وضعها.

ومع أن شانون وضع نظريته في مجال الاتصالات، إلا أنها تنطبق أيضاً على تخزين المعلومات واسترجاعها. أما الأفكار العامة التي تتطرق لها هذه النظرية، فصعبة الوصف لأنها تستخدم نظرية الاحتمالات وأمور تتعلق بمستوى الدهشة الذي يسجله الانسان لدى تلقيه معلومة محددة. ومن الغريب القول إن حجم المعلومات في رسالة ما يعتمد على مدى الدهشة التي يولدها محتوى الرسالة، إلا أن هذا هو حجر الأساس لأي نظرية معلومات متماسكة.

فإذا يمكنك الحصول على عدد إجمالي من «م» رسالة محتملة واحتمال الحصول على أي منها يعادل احتمال الحصول على أي من الباقي، يصبح حجم المعلومات في أي رسالة لو٢م (لوغارتم «م» للأساس ٢). بحتاج برهان هذه العلاقة إلى نظرية الاحتمالات، ولكن من وجهة نظر المتخصص في الكمبيوتر، تبدو هذه العلاقة بديهية لأننا نحتاج إلى لو٢م بت تماماً لتخزين «م» رسالة. فإذا كان لدينا بت واحدة يمكننا تخزين رسالتين هما واحد أو صفر وتتيح ٢ بت تخزين أربع رسائل على شكل ٠٠، ٠١، ١٠ و١١ وهكذا... النتيجة أنه إذا كان لدينا «ن» بت يمكننا تخزين ٢ن رسالة أي م = ٢ن وبما أن لو٢م هو ببساطة إس القوة التي يرفع إليها ٢ للحصول على م، يصبح من الواضح أن لو٢م = ن.

وإذا كانت احتمالات ظهور الرسائل غير متعادلة، يصبح من الممكن استخدام ترميز أكثر تطوراً لخفض العدد الوسطي من البتات الضرورية لتخزين الرسائل. هذا هو مبدأ ضغط البيانات ويمكن البرهنة أنه إذا كان احتمال ظهور الرسالة مي هو حي يصبح العدد الوسطي للبتات الضرورية مساوياً لجمع حيلوحي العائدة لكل الرسائل الممكنة.

وضع القانون

اخترع شانون قياس المعلومات هذا سنة ١٩٤٨ ونشر سلسلة من الأبحاث - إثنان في ١٩٤٨ وواحد في ١٩٤٩ - تعرض مسألة نظرية المعلومات بدرجة عالية من التكامل. وشكل ذلك إنجازاً مدهشاً. فلفترة طويلة كان العديد من الناس يحاولون إيجاد قياس للمعلومات ولكن شانون وجد واحداً وكتب نظريته الكاملة في ظرف سنتين فقط. والحال إن الأبحاث الأصلية تبدو كأنها كتاب مدرسي رسمي حول نظرية المعلومات وليس كمستندات بحث تحاول إيجاد وسيلة للوصول إلى فكرة معينة. فكان شانون الرائد في نظرية الترميز وتأثير الضوضاء والنطاق والقوة والترميز المصحح للأخطاء وضغط البيانات وكل ما له علاقة بالنظام الثنائي.

وتمكن أيضاً من حل مشكلة الإرسال اللاسلكي التي كانت معروفة سابقاً، باختراع ما أصبح يعرف بقانون شانون-هارتلي. ويمكن اختصار هذا القانون بالقول إنه إذا كان لدينا نطاق «ن» ونسبة «ر» بين الإشارة والضوضاء، تبلغ السرعة القصوى للإرسال الموثوق ب = ن لو(١+ر) بت في الثانية. بمعنى آخر، إذا قمنا بخفض النطاق أو حاولنا إرسال البيانات بسرعة كبيرة، نحصل على عدد متزايد من الأخطاء بشهادة كل من استخدم جهاز مودم سريع مع خط الهاتف. وعندما يصل الضوضاء إلى عتبة لا تحتمل ينتقل جهاز المودم إلى سرعة أقل للتقليل من كمية الأخطاء.

أما وحدة المعلومات التي اخترعها شانون، فتُعرف منذ ذلك الوقت وفي العالم أجمع باسم «البت» وهو اختصار لـ«binary digit» (أي الرقم الثنائي). ولكن يوجد وحدات معلومات أخرى. فإذا أخذنا اللوغارتم في معادلة شانون وغيرنا الأساس من ٢ إلى «هـ» (أو e الذي يساوي ٢٫٧١٩ أي اللوغارتم الطبيعية)، نحصل على قياس للمعلومات اسمه «النت» (nat أو nit). وإذا أخذنا اللوغارتم للأساس ١٠ (اللوغارتم العشري) يصبح اسم وحدة المعلومات هارتلي نسبة إلى RVL Hartley الذي حاول اختراع كل ما تحدثنا عنه قبل شانون ولكنه لم يكن محظوظاً بمعرفة الأرقام الثنائية. ويُعرف الهارتلي أيضاً باسم «دت» (dit). وقد ترغب (من يعرف؟) بالاطلاع على نسب التحويل بين هذه الوحدات، فاعرف أن بت واحدة تساوي ٠٫٦٩ نت او ٠٫٣ دت - تصور أنك تصف وحدة تخزين بأنها تخزن ٠٫٦٩ ميغانت أو ٠٫٣ ميغادت! لا شك أننا سعداء بتدخل شانون في الوقت المناسب ووضع النظام الثنائي ليمكننا التعامل بالأرقام الصحيحة.

رغم كل ذلك، لا أعتقد أنه لولا شانون لاستخدمنا كمبيوترات عشرية أو لبقينا جاهلين للقوانين الأساسية التي تتحكم بنقل المعلومات وضغطها. فعلم الهندسة التطبيقية يملك أساليب للتعامل مع حاجاته الخاصة ولا شك أن الأفكار والنظريات المناسبة لهذه التطبيقات كانت لا محالة ستظهر. وقد يكون من التضخيم في شيء تلقيب شانون بأنه أبو البت لكن ما يجب التشديد عليه هو أنه كشفها لنا قبل أن نعرف مقدار أهميتها.


بطاقة هوية

الاسم: كلود إلوود شانون
تاريخ الولادة: ١٩١٦
تاريخ الوفاة: ٢٠٠١
البلد: الولايات المتحدة
الاختصاص: نظرية الكمبيوتر
النظرية: نظرية المعلومات
المنتجات: لا يوجد
الشركات: لا يوجد